عبر مشوارى المتواضع مع الدنيا ، خلصت إلى أن البشر نوعان ، أحدهما يكون ميتاً وهو حى يرزق على وجه الأرض ، حيث لاتلمس له بصمة مؤثرة حتى فى محيطه العائلى الضيق ، وبالطبع ولا الوطن الذى يئن من مثل هذه النماذج التى تمثل عبئاً ثقيلاً عليه ، فيشعر معها بالرغبة فى الخلاص منها ، أما النوع الثانى فيبدو حياً وهو حى ، وحياً وهو ميت ، حيث يعيش حياته مهموماً بأحوال وطنه قبل نفسه ، وتواقاً لمشاركة أهله وناسه أفراحهم وأحزانهم ، متناسياً ذاته فى كثير من الأحيان ، لذا فامتداد حياته بعد رحيله الجسدى يكون منطقياً ، رغم أنه يترك فراغاً إنسانياً كبيراً عند من سبروا أغوار شخصيته ، فوقعوا بعد موته فى بئر الوحشة والإشتياق لوجوده ، وقد كان بديهياً أن تهاجمنى تلك الخواطر منذ بضعة أيام عندما حلت الذكرى الأولى لصديقى الناقد والفنان الكبير إبراهيم عبد الملاك ( 1944م _ 2011م ) الذى رحل عن دنيانا جسدياً فى 23/1/2011م ، أى قبل الثورة بيومين ، بعد رحلة قاسية مع عدة أمراض هاجمت بدنه النحيل ، بيد أنها لم تهزم روحه المصرية العفية التى ربما هى فرحة الآن بما كان يتنبأ به ويردده دائماً أن مصر تضىء فى مطالع القرون ، وهاهى الآن على مشارف إضاءة جديدة بعد ثورة 25 يناير المجيدة السائرة قدماً نحو الإكتمال ، لذا فالحقيقة تختلط عندى أحياناً بالخيال وأتصور أن عبد الملاك على قيد الحياه ، فقد كان سيفاً بتاراً على رقاب الفاسدين ، وموالاً رقيقاً فى أذان العاشقين ، وحضناً دافئاً لراحة المحبين .. كان حاد الرأى وقت حسم عظائم الأمور ، ومتدفق الدمع عند اجترار ذكرياته القريبة والبعيدة ، سيما التى تتعلق بأساتذته الذين ظل وفياً لهم حتى وفاته .. لاأنسى دموعه التى كانت تبلل عينيه كلما تذكر أستاذيه الفنانين الكبيرين حسين بيكار وصلاح عبد الكريم ، حيث كان لايكف عن الإعتراف بفضلهما سراً وعلانية ، ولايفارق مخيلتى أبداً وجهه عندما شاركته حلقة تليفزيونية عن أحد معارضه بقاعة بيكاسو فى نهايات عام 2000م ، مع المذيعة الرقيقة الراحلة رشا مدينة التى ماإن تطرقت لصلته ببيكار ، حتى استفاض فى تفنيد فضله عليه بولع ، قبل أن تفيض عيناه بالدمع أمام الكاميرا ، فقد كانت حلقة غنية بالوفاء والطهر ، وهو ماجعل طاقم الإخراج آنذاك يندفع فى عاصفة من التصفيق التلقائى بعد انتهاء التصوير .. وذات يوم من أيام عام 2007م كان بيننا ميعاد فى مدينتى كفر الشيخ ، حيث كان قادماً كوكيل لنقابة الفنانين التشكيليين من أجل تخليص بعض الأمور التى تخصنى مع المحافظ ، وليلة مجيئه هاجمه مرض السكر بعنف حتى وصل إلى درجة 650 ، وهى مشارف الموت كما قال له طبيبه الخاص ، فإذا به يهاتفنى ليلتها وهو يجهش ببكاء حار إنتزع دموعى ، معتذراً عن عدم استطاعته التحرك من مكانه ، فقلت له .. كل الدنيا فداء لدموعك الغالية ، فلتذهب كل الأشياء إلى الجحيم مقابل دمعة واحدة منك .. ولن أنسى دموعه التى سالت عندما هاتفته ذات يوم من أيام عام 2009م وهو فى أوج مرضه ، فإذا به يبادر بإخبارى عن صنوف الطعام التى أرسلتها له زميلتنا الفنانة والناقدة نجوى العشرى ، وقال لى يومها بتهدج شعورى محفوف بالدموع .. أنا أشعر أن نجوى مثل أختى وبنت خالتى وبنت عمتى وجارتى .. نجوى بطيبتها ونقاوتها هى مصر يامحمد .. هى النخلة والوردة والنهر كما أرسمها وأنحتها دائماً .. هكذا كان يفكر هذا المبدع الكبير الذى انسكب بكل مشاعره داخل منحوتاته وتصاويره ورسوماته الصحفية ونصوصه النقدية ، حاملاً بين جنباته ثقافة وطن طالما اعتز بأبنائه الأبرار المخلصين ، ولم يكن إبراهيم إلا واحداً من أنبلهم وأطهرهم ، عبر إبداعه الأصيل ونخوته الراسخة وحنانه المتوهج ودموعه الفياضة التى تشعرنى دوماً أن عبد الملاك مازال على قيد الحياه .
محمد كمال
عمودى الأسبوعى " ضى النهار " _ جريدة نهضة مصر _ صفحة فنون جميلة _ الخميس 2 / 2 / 2012م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق